أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير رحمه الله، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ:
مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، وَصُبَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا".
وفي رواية عند الإمام مسلم أيضًا، قال عروة: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيم بْنِ حِزَام عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا".
وفي رواية عند مسلم قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَخُلُّوا، وفي رواية رابعة عند مسلم: أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ وَجَدَ رَجُلاً وَهُوَ عَلَى حِمْصَ يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا".
قال الامام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم:
(هَذَا مَحْمُول عَلَى التَّعْذِيب بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَا يَدْخُل فِيهِ التَّعْذِيب بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ ، وَالْحُدُود ، وَالتَّعْزِير ، وَنَحْو ذَلِكَ )اهـ
وقال : الأنباط هم فلاحو العجم ..
في ضوء هذا الحديث برواياته المتعددة؛ نستعرض بعض النقاط :
نهى الإسلام عن تعذيب البشر لبعضهم في غير حق، ووجوب إنكار ذلك
هذا الحديث الجليل يذكر فيه سيدنا هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه رأى قومًا من النَّبَط أو من فلاحي بلاد الشام من العجم من غير المسلمين، وقد تأخروا عن أداء الجزية، فأخذهم الوالي يومئذٍ وأقامهم في حَرِّ الشمس، وصبَّ على رءوس بعضهم الزيت نَكالاً وتعذيبًا، فلما رأى هشام رضي الله عنه ذلك لم يتمالك نفسه أن بيَّن الحكم الشرعي في هذا الفعل القبيح المستقبح أصلاً وشرعًا.
وكان هشام بن حكيم رضي الله عنه إيجابيًّا؛ حيث لم يسكت حينما رأى هذا الظلم، إنما ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تحرك حتى ذهب إلى عمير بن سعد فأبلغه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عمير بن سعد بهؤلاء الناس فحلوا.
وتكرر هذا من حكيم بن حزام مرة أخرى؛ حين رأى عِيَاض بن غَنْم، وهو صحابي جليل يفعل ذلك مع أهل حمص من غير المسلمين، وهو يُشَمِّسهم أو يقيمهم في الشمس، ويبدو أن ذلك كان من صور النكال والعقوبة لمن يخالف أمر الولاة.
فقد أخرج ابن حبان وغيره في صحيحه أن هشامًا وجد عياضًا وهو على حمص شَمَّس نَاسًا مِنَ النَّبَطِ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هشام: ما هذا يا عياض؟ فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا".
وفي رواية: أنه رأى عياض بن غَنْم يفعل ذلك بصاحب داريا- أي الوالي الذي كان على داريا من قِبَل الروم- فلم يقبل سيدنا هشام بن حكيم إذ رأى هذا المنظر غير الإنساني وغير اللائق أن يسكت على هذه الجريمة، ومن َثَّم تحرك وأَعْلَمَ فاعلَ هذا بلعنة الله ورسوله، وبما يستحقه من عذاب حينما يلقى اللهَ تبارك وتعالى.
وهكذا نرى الإسلامَ الحنيفَ واضحًا كلَّ الوضوح في النهي عن تعذيب الناس بغير حق، سواءٌ كان هذا التعذيبُ لإجبارهم على اعتناق شيءٍ، أو لإكراههم على فعل شيءٍ، بل اعتبر الإسلامُ الضغطَ والإكراهَ بالتعذيب عملاً مشينًا يُعَرِّض فاعلَه لعذاب الله يوم القيامة كما في الحديث.